تتزايد محاولات التجسس وسرقة البيانات واختراق الخصوصية يومًا بعد يوم، سواء أكان ذلك في رسائل البريد الإلكتروني أو أثناء مشاركة الملفات أو حتى في المحادثات اليومية على التطبيقات الذكية.  
أصبحت البيانات الشخصية والمعلومات الحساسة عرضة للاستهداف أكثر من أي وقت مضى خصوصًا مع انتشار العمل عن بعد، وشيوع التواصل عبر الإنترنت.

في هذا العالم الرقمي المفتوح، لم يعد الأمان رفاهية أو ميزة إضافية، وإنما بات ضرورة ملحّة لكل مستخدم للإنترنت، بغض النظر عن خبرته التقنية، أي أن حماية رسائلك وملفاتك وبياناتك لم تعد شأنًا خاصًا بالمطورين أو المتخصصين، بل هي مسؤولية فردية ومجتمعية على حد سواء.

وهنا يأتي دور «غنو پرايفسي غارد» (GNU Privacy Guard) أو «جي پي جي» (GPG) للاختصار. وهي أداة مجانية ومفتوحة المصدر تعمل على تشفير رسائلك وملفاتك الحساسة، أو توقيعها رقميًا، لتضمن أن مُستقبِلها يثق في مصدرها وأنها لم تُعدّل أثناء النقل أو الحفظ. يوفر لك «جي پي جي»، بالإضافة إلى التشفير، نظامًا لتوثيق الهوية الرقمية بطريقة غير قابلة للتزوير تقريبًا، مما يزيد من المصداقية الرقمية في التعاملات الإلكترونية.

الجذور: من «پي جي پي» إلى «جي پي جي»

حتى نفهم كيف وصلنا إلى «جي پي جي»، يجب أن نعود إلى التسعينيات حين كانت تتصاعد الحاجة إلى حماية الخصوصية الرقمية، وظهر برنامج ثوري اسمه «خصوصية جيدة جدًا» (Pretty Good Privacy) أو (PGP) «پي جي پي» للاختصار. 

كان «پي جي پي» أول تطبيق عملي يسهل استخدامه للتشفير بالمفتاح العام، ويسمح لأي شخص بأن يملك مفتاحًا عامًا يشاركه مع الجميع لتلقي رسائل مشفرة، ومفتاحًا خاصًا يحتفظ به لنفسه ليتمكن فقط هو من قراءة تلك الرسائل.

لكن على الرغم من فعالية «پي جي پي»، إلا أنه ظل برنامجًا تجاريًا مغلق المصدر، وتعرض لمشاكل قانونية وقيود على التوزيع بسبب سياسات التشفير الصارمة في بعض الدول آنذاك. هذا الواقع دفع مجتمع البرمجيات الحرة إلى تطوير بديل مفتوح وآمن يمكن للجميع استخدامه ومراجعته وتطويره بلا قيود، فكان «جي پي جي» الذي بُني على نفس المبادئ، مع الالتزام التام بمعيار OpenPGP الذي أصبح لاحقًا مرجعًا عالميًا في مجال التشفير والتوقيع الرقمي.

إذن، يمكن القول إن «پي جي پي» هو الأساس الذي مهّد الطريق لتقنيات حماية الخصوصية الرقمية الحديثة، بينما يمثل «جي پي جي» تطورًا طبيعيًا نحو الشفافية والتوافر المجاني والأمان طويل الأمد.

في يومنا يَستخدِمُ «جي پي جي» ملايينُ الأشخاص حول العالم، من الصحفيين والنشطاء وصولًا إلى الشركات الكبرى والمؤسسات الحكومية، وغاية استخدامه ضمان خصوصية البيانات وسلامة التواصل الرقمي في مواجهة أخطر التهديدات.

كيف يعمل «جي پي جي»؟ البنية التشفيرية

يعتمد «جي پي جي» في جوهره على مبدأ التشفير بالمفتاح العام (Public-Key Cryptography)، أو ما يُسمى أحيانًا التشفير غير المتماثل.

لكن، ماذا نعني عندما نقول ”غير المتماثل“؟

في الأنظمة التقليدية القديمة (التشفير المتماثل)، كان كلا الطرفين يحتاجان إلى ”كلمة سر“ أو مفتاح واحد مشترك فيما بينهما، وهذا المفتاح يُستخدم لتشفير الرسائل وفك تشفيرها.

مشكلة هذا الأسلوب أنه يتطلب وسيلة آمنة مسبقة لتبادل المفتاح، وإذا سُرّب هذا المفتاح، تنهار سرية التواصل. أما في التشفير غير المتماثل (الذي يعتمد عليه «جي پي جي»)، يكون لكل مستخدم زوج من المفاتيح المرتبطة رياضياً:

مفتاح عام (Public Key):

يمكنك مشاركته مع العالم أجمع، تنشره على الإنترنت أو ترسله لأي شخص يريد التواصل معك بشكل آمن.

يُستخدم هذا المفتاح لتشفير الرسائل المرسلة إليك، وأيضًا للتحقق من تواقيعك الرقمية.

مفتاح خاص (Private Key):

يجب أن يبقى محفوظًا وسريًا لديك وحدك، ولا يطّلع عليه أحد غيرك.

يُستخدم هذا المفتاح لفك تشفير الرسائل التي أُرسلت إليك باستخدام مفتاحك العام، أو لتوقيع الرسائل والملفات رقميًا.

فلننظر معًا إلى خطوات هذه العملية:

  1. إذا أراد أحدهم إرسال رسالة سرية لك، يحصل على مفتاحك العام ويستخدمه لتشفير الرسالة.
  2. تصل الرسالة إليك وهي مشفرة بالكامل ولا يستطيع أحد قراءتها حتى لو اعترضها.
  3. أنت وحدك دون غيرك، لأنك تملك المفتاح الخاص، تستطيع فك تشفير الرسالة وقراءتها.

وحتى نفهم هذا المبدأ، يمكنني أن أقدّم مثالًا توضيحيًا؛ فتخيّل أن لديك صندوق بريد شفافًا في مكان عام، يمكن لأي شخص أن يضع رسالة بداخله (المفتاح العام)، لكن لا أحد يستطيع أن يفتح الصندوق إلا من يملك المفتاح الخاص (أنت). 

هكذا، يستطيع الجميع مراسلتك بأمان، لكن لا أحد سواك يستطيع قراءة الرسائل.

فثمة عدة جوانب تجعل البنية التشفيرية لـ«جي پي جي» أكثر أمانًا، أبرزها أن لا حاجة لتبادل كلمة مرور سرية مع كل شخص، بل يمكنك أن تنشر مفتاحك العام دون خوف. بالإضافة إلى ذلك، حتى لو سُرقت الرسائل أو اعترضت، لا يستطيع أحد قراءتها دون المفتاح الخاص. وأخيرًا، فإنه يمكن أن يُستخدم نفس الزوج من المفاتيح أيضًا لتوقيع الرسائل، بحيث يتأكد الطرف الآخر أن الرسالة أصلية ولم تُعدّل.

التوقيع الرقمي: حماية الأصالة والنزاهة

بالإضافة إلى التشفير، يقدم «جي پي جي» ميزة حيوية هي التوقيع الرقمي. هذه الميزة لا تضمن سرية الرسالة فحسب، بل تضمن أيضًا أنها أصلية ولم يُعبث بها.

فعندما ترسل ملفًا أو رسالة وتريد أن تؤكد للطرف الآخر أنها صادرة من طرفك، يمكنك توقيعها بمفتاحك الخاص، بالمقابل، يستخدم الطرف المُستقبِل مفتاحك العام للتحقق من صحة التوقيع. وفي حال عُدّل الملف أو الرسالة، حتى ولو بحرف واحد، فإن التوقيع يفقد صلاحيته.

يحقق هذا الأسلوب هدفين رئيسيين:

  • الأصالة (Authenticity): التأكد أن الرسالة أو الملف جاء بالفعل من المرسل الأصلي.
  • النزاهة (Integrity): ضمان عدم تعديل أو تغيير الرسالة بعد توقيعها.

توثيق المطورين وحماية الكود البرمجي (تطبيقات «جي پي جي» في بيئة المطورين)

في المشاريع البرمجية الاحترافية، خاصةً المشاريع مفتوحة المصدر، تُعد موثوقية الكود ومعرفة ”من كتب هذا الكود“ مسألة مصيرية حتى يضمن أمان المنتج ويحمى المستخدمون.

هنا يبرز دور «جي پي جي» في تقديم طبقة حماية لا غنى عنها وهي التوقيع الرقمي للكود.

التوقيع الرقمي للكود (Code Signing)

التوقيع الرقمي هو عملية إرفاق ”بصمة“ مشفرة لكل تعديل تجريه على البرمجية. وذلك باستخدام مفتاحك الخاص، بحيث يستطيع أي شخص لاحقًا (مثل مدير المشروع أو المستخدم) التأكد من هوية صاحب التعديل عبر مفتاحه العام.

ولكن، كيف تجري هذه العملية على أرض الواقع؟ فعند تنفيذ أمر مثل:

git commit -S -m "Fix security issue"

عندما يوقّع المطور التعديل باستخدام «جي پي جي»، يضيف Git التوقيع إلى «الإيداع» (Commit). بعد ذلك، تظهر علامةٌ تؤكد أنه موثّق (Verified) بجانب التعديل على GitHub أو GitLab، مما يعني أن التعديل جاء فعلًا من المطور نفسه وليس من شخص ينتحل اسمه.

هناك ثلاثة أسباب رئيسة تجعل التوقيع الرقمي للكود ذا أهمية، إذ أنه:

  • يمنع إدخال كود مجهول أو تعليمات خبيثة دون علم إدارة المشروع.
  • يحمي من هجمات سلسلة التوريد (Supply Chain Attacks) حيث قد يحاول طرف ثالث التلاعب بالتحديثات أو الحزم.
  • يساعد في توثيق المسؤولية (Accountability): يمكن نسبة كل تعديل إلى صاحبه الحقيقي، حتى لو تكررت أسماء الحسابات أو كان هناك انتحال للهويات.

توقيع الإصدارات (Release Signing) والحزم البرمجية

الإصدار النهائي لأي برنامج (مثلًا ملف tar.gz أو exe) غالبًا ما يُرفق معه ملف توقيع (.asc).  
يقوم المستخدم النهائي بتنزيل كل من البرنامج وملف التوقيع، وعند التحقق باستخدام «جي پي جي»، إذا تطابق التوقيع مع مفتاح المطور، يضمن المستخدم أن الملف سليم ولم يُعدّل أثناء التحميل.

في أنظمة إدارة الحُزم (Package Managers)

في أنظمة إدارة الحُزم مثل APT وYUM وnpm وPyPI، تُوقّع جميع الحزم البرمجية تلقائيًا باستخدام «جي پي جي» من قبل مطوريها أو القائمين على التوزيعة. هذا التوقيع كختم أمان يثبت أن الحزمة أصلية ولم تُعدّل بعد إصدارها من قِبل المطور.

عندما يحاول المستخدم تثبيت أو تحديث برنامج، يتحقق النظام تلقائيًا من توقيع الحزمة. إذا لم يكن هناك توقيع موثوق أو إن لم يصح التوقيع، فسيظهر تحذير أو يُرفض تثبيت الحزمة، لأن ذلك قد يعني أن الحزمة بها تلاعب أو أنها غير آمنة.

تساعد هذه الطريقة على حماية المستخدمين من تثبيت برامج خبيثة أو مزيفة، وتضمن أن كل حزمة تصل إلى جهازك سليمة وأصلية كما صممها المطور.

ولذلك أصبح استخدام «جي پي جي» في التوقيع البرمجي، وتوقيع الإصدارات، والتحقق من الحزم البرمجية من المتطلبات الأساسية لكل مطور ومبرمج محترف في عصرنا الحالي. لم يعد هذا مجرد خيار إضافي، بل أصبح شرطًا ضروريًا لقبول المساهمات في آلاف المشاريع البرمجية الكبرى ومفتوحة المصدر حول العالم.

اعتماد المطورين والمبرمجين على «جي پي جي» لا يعزز فقط من ثقة العملاء والمستخدمين في المنتجات البرمجية، بل يؤمّن أيضًا سلاسل التوريد الرقمية ويحمي المشاريع من محاولات التلاعب أو من أن تُقتحم ببرمجيات ضارة. كما يمنح المبرمجين سمعة مهنية قوية ويُظهر التزامهم بمعايير الأمان والجودة، وهو ما أصبح اليوم أحد أهم مقومات النجاح والاستمرارية في عالم البرمجيات والتقنية.

حماية سلسلة التوريد البرمجية (Software Supply Chain)

اليوم، لم تعد الهجمات تستهدف المستخدمين والمطورين فحسب، بل أصبحت تركّز على البنية التحتية نفسها، كاستهداف تحديثات البرامج أو مكتبات التبعيات، مثل أنظمة التوزيع الحديثة (Debian, Arch, Ubuntu) (والتي تعتمد على توقيعات «جي پي جي» للتحقق من الحزم) ومنصات GitHub وGitLab اللتان تقدمان ميزات للتحقق من توقيع التعديلات تلقائيًا.

حماية البريد الإلكتروني والوثائق الحساسة

أصبح تبادل المعلومات الحساسة أمرًا حتميًا في الشركات، والإعلام، ومجال الدفاع عن حقوق الإنسان، والأبحاث العلمية، يتيح «جي پي جي»  تشفير البريد الإلكتروني والمرفقات، فلا يمكن لأي جهة ثالثة (ولا حتى مزود الخدمة) الاطلاع على المحتوى، فلذلك يوفر ضمانة مهمة في حماية الرسائل بين الصحفيين والمصادر وتأمين الوثائق والعقود عند تبادلها عبر الإنترنت.

التحقق والمصادقة السريعة

يكفي أن تقوم بمشاركة مفتاحك العام ليتمكن الآخرون من التأكد من أن الرسائل والملفات التي يستلمونها منك حقيقية ولا تلاعب أو تغيير فيها. يمكنك بسهولة أن تنشر مفتاحك العام على مواقعك الرسمية أو حساباتك الشخصية أو عبر خوادم المفاتيح العامة ليكون متاحًا للجميع.

وبشكل عام، ما يميز هذه الأداة أنها مجانية تمامًا ومفتوحة المصدر، وقابلة للتكامل مع العديد من البرامج الأخرى دون الحاجة إلى تراخيص أو اشتراكات. كما أنها تدعم جميع أنظمة التشغيل مثل لينكس، ماك، وويندوز، واصلةً بذلك إلى شريحة واسعة من المستخدمين. إضافة إلى ذلك، فهي تتكامل بسلاسة مع برامج البريد الإلكتروني مثل Thunderbird وEnigmail، ومع أدوات التطوير مثل Git وVS Code، فضلًا عن منصات الحوسبة السحابية، مما يجعلها خيارًا عمليًا ومرنًا. وبغض النظر عن خبرتك التقنية، ستجدها متاحة إما بواجهة رسومية سهلة الاستخدام (GUI) أو كأداة سطر أوامر (CLI) تناسب جميع المستويات، مما يتيح لك اختيار الطريقة الأنسب لاحتياجاتك.

دعم مجتمعي وتحديثات أمنية مستمرة

«جي پي جي» مدعوم من آلاف المطورين حول العالم نظرًا لأنه مفتوح المصدر، وبالطبع تشمل ميزات ذلك مراجعة الشيفرة باستمرار، وإصدار تحديثات وتصحيحات أمنية عند الحاجة.

تثبيت «جي پي جي».. على جميع الانظمة 

لينكس:

يأتي غالبًا مثبتًا، أو يمكنك تثبيته بالأمر:

sudo apt install gnupg
ماك:  عبر حزمة Gpg4win.
ويندوز:  عبر GPG Suite.

الخلاصة

في الختام نذكّر بأن التهديدات الرقمية والمخاطر والانتهاكات تزداد يومًا بعد يوم، لذلك لم يعد الأمان الرقمي ترفًا أو خيارًا ثانويًا، بل أصبح ضرورة يومية لكل شخص يرغب في حماية بياناته وهويته الرقمية، سواء كنت مطورًا أو مبرمجًا أو صحفيًا أو ناشطًا أو حتى مستخدمًا عاديًا ينشد خصوصية أكبر في التواصل.

استخدام «جي پي جي» لا يتطلب خبرة تقنية متقدمة، ومع ذلك يرفع من مستوى الحماية والموثوقية، الذي أصبح اليوم معيارًا أساسيًا في عالم التقنية. لكن يجب أن نتذكر دومًا أن قوة «جي پي جي» الحقيقية تكمن في المفتاح الخاص الذي تمتلكه. عليك أن تحرص على إبقائه في مكان آمن وعدم مشاركته مع أي جهة، كما يُنصح دائمًا بحفظ نسخة احتياطية منه في مكان منفصل وغير متصل بالإنترنت، حتى لا تفقد القدرة على فك تشفير بياناتك أو توقيع رسائلك في حال حدوث أي ظرف طارئ.

تمثل أداة «جي پي جي» للتشفير، دعوة لكل واحد منا ليكون أكثر وعيًا ومسؤولية في التعامل مع معلوماته الرقمية، وليخطو خطوة عملية نحو أمانٍ وخصوصية أفضل في عالم رقمي يتقلب كل يوم.